أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، واذكروا على الدوام وقوفَكم بين يديه في يوم تشخَص فيه الأبصار.

أيها المسلمون، حينَ تستَحكم الآفاتُ وتستشري العِلل وتكثر الأدواء تضطربُ عند ذاك الألباب وتلتاث العقول وتحارُ الأفهام، فتنأى بالمرء عن سلوك الجادَّة وتحيدُ به عن الصراط، وتُحدثُ في نظام الحياة فساداً عريضاً، حيث يشيع الخللُ ويفشو العوج وتختلُّ الموازين وتنعكس الأمور، فيقدَّم المؤخَّر ويؤخَّر المقدم، وتصغَّر العظائم وتعظَّم الصغائر، وتحفَظ الفروع وتضيَّع الأصول. وإنَّ في دنيا الواقع ـ يا عباد الله ـ من صور هذا الداء القديم ما لا يكاد يُحصى من الصوَر، فترى في الناس من يجتهد في ألوان القربات ليلَه ونهارَه ليزدلفَ بها إلى مولاه ويحظى عندَه بالدرجاتِ العلى والنعيم المقيم، لكنّه يقرن ذلك بما يُفسد عليه جدَّه ونصبَه، ويُحبط عملَه واجتهادَه، حين يشرك بالله غيرَه بدعاء أو باستعانة أو باستغاثة أو بذبح أو بنذرٍ أو بصرفِ أيّ نوعٍ من أنواع العبادة التي هي حقٌّ خالص لله، لا يجوز صرفُ شيء منه لغيره سبحانه، وحين يأتي كاهناً أو عرّافاً فيسأله ويصدِّقه، وحينَ يعلِّق تميمةً أو ودعة يستدفع بها بزعمه الضرَّ عن نفسه أو أهله وولده، مع أن الله تعالى قد بيَّن لعباده في كتابه بواضح البيان أنَّ عاقبةَ هذا الإشراك هو حبوطُ العمل وفساده، وعدمُ انتفاع عامله به في الآخرة، وتحريمُ الجنة عليه، وجعلُ مأواه النار، فقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [الزمر:65]، وقال عز اسمه: ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال عز وجل: لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَا بَنِى إِسْرٰءيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وفي صحيح السنة أيضاً من البيان النبوي الرفيع لمآل هذا الأمر ما لا مزيدَ عليه، فقد أخرجَ الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من أتى عرافاً أو كاهناً وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ))[1]، وأخرج الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه أيضاً بإسناد صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من علَّق تميمةً فقد أشرك))[2].

ومن ذلك أن ترى بعضَ من يُعنى بإقامة حروف القرآن وتجويدِها وتحسين الصوت بالتلاوة يضيّع حدودَه، ويُهمل العملَ بما أنزل الله فيه، ويُغمضُ الأجفانَ عن تدبّر معانيه والتأثّر بعظاته والاعتبار بقصصه وأمثاله.

ومن الناس من يحترز من رشاش النجاسات أن يصيبَ ثيابَه شيءٌ منها لكنّه لا يتوقّى من غيبة أو نميمةٍ أو قولِ زور، ومن يُكثر من الصدقات لكنَّه لا يبالي بمعاملات الربا ولا يتورّع عن مالٍ حرام، ومن يتهجّد بالليل والناسُ نيام لكنَّه يؤخِّر الصلاةَ المكتوبة عن وقتها، ومن يصوم بالنهار لكنَّه يؤذي الجيرانَ ويتعدّى على حقوقهم ويستطيل في أعراضهم، حتى تكون جيرتُه عليهم همًّا ثقيلاً وشرًّا مستطيرا وبلاءً عظيماً، ومن يبَرّ معارفَه وعُشراءَه بإقامة أوثق العلائق معهم لكنَّه يعُقّ والديه وإخوانه، ويقطع رحمَه، ويتبرَّأ من قرابته وأهل بيته، ومن يجود على الفقير البعيد لكنَّه يدَع أهلَ بيته عالةً يتكفّفون الناس، أو يضيّق عليهم في النفقة الواجبة فلا يعطيهم ما يكفيهم بالمعروف، ومن يصون لباسَه ومركوبه وفراشه عن الأدناس والأقذار لكنَّه لا يحفظ سمعَه وبصرَه عن التلوّث بأرجاس الحرام، ومن يطيع في صغار الأمور دون كبارها، وفي ما تخفّ عليه مؤونتُه دون ما عليه فيه مشقة، قال العلامة الحافظ ابن الجوزي رحمه الله وهو من علماء القرن السادس، قال: "وفي الناس من هذه الفنون ـ أي: المتعلقة بحفظ الفروع وتضييع الأصول ـ مما رأيناه عجائبُ يطول ذكرها".

عبادَ الله، إنه لا ريب أنَّ مبعثَ هذا الانحرافِ ومصدرَ هذا العوجِ إنما هو الخضوع لسلطان العادات، والإذعانُ لهيمنة الأعراف، بعيداً عن أنوار الوحيين، قصِيًّا عن ضوابط التنزيلين، وكذا اتباع الهوى بغير هدًى من الله، وفشوُّ الجهل بدين الله، وقلة الناصح وندرة المعين.

ألا وإن المخرج من كلِّ أولئك ـ أيها الإخوة ـ لا يكون إلا بدواء العلم والعمل. أما العلم فلأنه يقف صاحبه على القواعدِ والأصول والأسسِ التي تُبتنى عليها الفروع، وتقوم عليها الجزئيات، ويُنشئ له فكراً منظَّماً منضبطاً، يضع الأشياءَ في مواضعها، ويعرف للأعمال مراتبَها ومنازلَها. وأما العملُ فلأنَّه يقع صحيحاً مُوافقا لما شرعه الله، ماضياً على نهج رسول الله ، سعيداً بالقبول، مبلِّغاً كلَّ مأمول، كما أن مخالفةَ الهوى والاجتهاد في ضبط الأعراف والعادات بضوابط الشرع، كلُّ أولئك مما يُرجَى أن يُستصلح به هذا الانحراف، ويقامَ به هذا العوج، ويثوب به المسلمُ إلى طريق دينه القويم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [القصص:50].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


 


 

[1] أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (339)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "وضعف محمد ـ يعني: البخاري ـ هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك، وله شاهد من حديث جابر أخرجه البزار (9045- كشف الأستار)، وجوّده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (5/117): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285).

[2] أخرجه أحمد (4/156)، وصححه الحاكم (4/219)، وقال المنذري في الترغيب (4/203): "ورواة أحمد ثقات"، ومثله قال الهيثمي في المجمع (5/103)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (492).

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله الحَكَم العَدل اللطيف الخبير، أحمده سبحانه له الدنيا والآخرة وإليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فيا عباد الله، إن عِظمَ الخسارة التي يُمنَى بها من يحفَظ فروعاً ويضيّع أصولاً ـ لا سيما إذا كانت هذه الأصول توحيداً وإيماناً ـ خليقٌ بأن يحمِل أولي الألباب على كمال العناية بهذا الأمر وشدّة الحذر من التردّي في وَهدته وتمام الحرص على التجافي عن كل سبيل يُفضي إليه وكلِّ حاملٍ يحمل عليه، وأيُّ خسارة ـ يا عباد الله ـ أعظم من أن يحبط عمل العامل أو يُنتقصَ من أجره أو يضاعف في وزره.

ألا فاتقوا الله عباد الله، وحذار من تضييع الأصول، واعرفوا لكلِّ شيء قدره، وأنزلوه منزلته تستقمْ أموركم، وتطبْ حياتكم، وتحظَوا برضوان ربكم.

وصلوا وسلموا على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقد أمِرتم بذلك في الكتاب المبين حيث قال الرب الكريم قولاً كريماً: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين...